الجمعة، أغسطس 15، 2014

أبي ... 5 سنوات والجراح واحد




أذكر أنه كان يومًا حارًا والساعة لم تتجاوز التاسعة صباحًا
ايقظتني أمي لأحضر الإفطار
ارتديت ملابسي وخرجت نصف نائم، أردد ما طلبته مني أمي حتى لا أنساه
وعدت، سمعت صوتها تناديني بالصعود للطابق الثاني وإحضار الطعام لأبي
دخلت غرفته، ألقيت على أبي تحية الصباح فأجابني بإشارة
جسد ممدد، حتى بعد مرور أيام على تعبه منذ خروجه من المستشفى، ما زال مشهد جسده الممدد على السرير، وأنات الألم المتتابعة، وأصوات الآهات المتكررة، غريب على عقلي، ويُعجز قلبي.
وضعت الطعام لأمي وخرجت، لم أكن اتحمل نظرة عينيه لي، كانت تحمل شيئًا من العذاب، لم أكن أدري وقتها أنه عذاب الفراق.
حاولت طرد المشهد من ذهني، حاولت العودة للنوم من جديد، ولكن صرخة قادمة من غرفة أبي غيرت كل شيء.
كنت أول الواصلين للغرفة، أبي يتسند على أمي وعيناه صفراء اللون، شاحب الوجه، جزء من الطعام في فمه والآخر رفض إطعامه، نظرات رعب ملأت قسمات وجه أمي، ونداءات مستغيثة كانت ما نجحت في القيام به.
وقفت عاجزًا، لم أدر ماذا أفعل؟ نظرة أبي جمدت الدماء في عروقي، نظرة بقيت ما بقي عمري، كانت إذًا نظرة الموت.
صعد أخي وخلفه الجيران، محاولات للتواصل مع طبيب، أبي يطلب الدخول للحمام، أو ربما يريد أن يشعر بأنه ما زال حيًا.
يحضر الطبيب ويأمر فورًا بنقله إلى المستشفى، أبي عاجز على الحركة، فأسرع مع أخي لحمله، أمسكته من قدمه اليمنى وألبسته حذائه، يا الله تبدلت الأمور الآن وأنا من اعتني به لا هو.
تحركنا في الشارع، كنت دائم النظر لوجه أبي الخالي من الدماء، كان يلتفت يمنة ويسرة، ربما يلعن الأسباب التي جعلت الجميع ينظر إليه وهو عاجز غير قادر على السير، يحمله رجال أربعة، ربما لم يكن يريد الشعور بذلك إلا وقت الموت.
انطلقت السيارة، تحرك معه أخي وبقيت أنا، عدت للمنزل، دعاء ورجاء، اكتب على مدونتي "برجاء الدعاء، أبي مريض" واجلس انتظر.
أخبار تتوارد، أبي في المستشفى العام بأشمون، تحرك لشبين الكوم، الحالة أفضل، الحالة أسوأ، الأطباء يحيطون به.
احتشد الأهل في المنزل، اقرابي، وأختي أتت من القاهرة، وأصبح البيت موجة هادرة.
صلينا الجمعة، وبعدها العصر، لا جديد يُذكر، وبالقرب من المغرب، أتى طارق يحمل خبرًا، يخبره لأمي فتنفجر بالبكاء والصراخ، عرفنا الخبر، الأستاذ صلاح البوهي رحل!!
ماذا؟!! خبر جاء كالصاعقة، أتساءل من؟! كيف؟!! وتأتي الإجابة في صراخات العمة والخالة، "يا صلاح... لا يا صلاح" ليأتي سؤال لماذا؟!!
صعدت الدرج لا أدري كيف، رائحة الموت غطت على كل شيء، أمر بغرفة أبي فأراه جالسًا يتابع التلفاز أو يقرأ الصحيفة كعادته، وقلبي يردد ألف مرة، لماذا؟ كنت أراه هنا، أتقولون حقًا أنه لن يعود مجددًا، أتقولون حقًا أنني لن أكون قادرًا على متابعة مباريات الكورة معه؟
لم أبك ... ربما من العجز، أو ربما من الرفض، أو ربما لكل هذا وذاك، كيف ترحل وتتركني؟ كيف تركت حمام الموت البشر لتأخذ روحك أنت بالذات؟ لماذا يا أبي؟
خرجت بعدها من المنزل، الكل ينظر إليك ويقول البقاء لله، فجأة يشاهد عقلك كل المشاهد السعيدة التي جمعتك به، فجأة أذكر يوم كتبت خاطرة يوم ميلادك فاحتضنتني، اذكر حضنك وكأنك تودع روحك في جسدي، ولم أكن أدري أن روحك كانت تودعني.
اذكر يوم كنت مريضًا صائمًا، حملتني على درجاتك، كنت تنظر إليّ بعيون الخوف، كنت تجري بالدراجة خوفًا من أن تذبل زهرتك الوارفة ويضيع عمري، بقيت حيًا ولكنك من رحلت
أذكر بعد إجراءك لعملية الطحال، كتبت خاطرتك "الأمومة والطحال" وطلبت مني أن اقرأها، طلبت مني رأيي، لم تكن تريده ولكن كنت تريد إشعاري بأني كاتب ناجح له مستقبل.
شريط يمر بذكريات أجبرتني على البكاء، وصوت المنادي من بعيد يُنعي وفاة أبي، يردد أسمك ودون أن يدري، يقتل قلبي.
المغرب يؤذن، جثمان أبي في الطريق، وصديق يطلب مني الصلاة والدعاء له بالرحمة، صليت دون أن ادعو له، لم يصدق عقلي بعد أن أبي رحل عن الدنيا ولا يجوز عليه سوى الرحمة.
عدت من الصلاة، أخبروني ان الجثمان وصل، أخبروني أنه يُغَسل، أصررت على الدخول، وشاهدته.
أبي، يرقد مبتسمًا دون كلمة، لماذا لا تتكلم يا أبي؟ لماذا تترك هؤلاء البشر يغسلونك؟ أبي انت حي، استيقظ أعلم أنك تسمعني، وددت لو أبعدتهم عنه، وددت لو صرخت فيهم، وددت لو صرخ هو فيهم، ولكن لم يحدث شيئًا من هذا.
الآن يكفنوه، وترحل الجثمان للمسجد، الآن أفقد الحياة وأتوه في دوامة لا أعرف مداها، لن تكون الليلة كمثيلتها من الليالي، لم يمر اليوم كما مر سابقه.
نتحرك في الجنازة، البعض يسندني وأنا اتحرك كالأنعام، أحدهم يعزني، ولا أدري ماذا يحدث؟ فقدت القدرة على التجاوب مع الحياة، فقدت نور الحياة.
جثمان أبي وارى التراب، البكاء في كل مكان، بكيت بحرقة، وحضنه ما زال يضمني، ما زالت أسمع نبضات قلبه تدق بداخلي، ما زالت ألمس روحه في كل حركة أخطوها، ما زال بجانبي حتى بعد الرحيل.
يمر اليوم، بطيئًا متثاقلًا، دموعي خرجت أحيانًا، ومؤشر الحياة في قلبي يرفض الحراك، أصمت واذكر، لم ترحل الذكرى من قلبي، الحضن، نظرات اللهفة والخوف، مداعبته لي، ثناءه على ما أكتب، صراخه في وجهي، كل شيء تحطم في لحظات، كل شيء تحطم في كلمة من طارق، أبوكم مات !!
تمر 5 سنوات، لا يهم كم من العمر مضى وكم آتٍ، ما زال الجرح واحدًا، وما زال ضمة حضنه تنير قلبي وتحرك شجني، أبي مهما تعاقبت السنوات سيبقى رحيلك إيذانًا للكون بالدمار، لا أذكر بعدها أني فرحت بالعيد، لا أذكر بعدها أني أحببت أحدًا مثلك، لا أذكر بعدها أن قلبي توقف عن البكاء عليك، لا أذكر سوى أن جسدًا وارى التراب، لتتوه بعدها روحي في محاولات النسيان!!
رحمك الله يا أبي !!